في أعظم سورة على الإطلاق نقلنا الله تعالى من حمده على ربوبيته للعالمين إلى رحمته بالعالمين،
وبين كل آية وآية يرد الله عزَّ وجلَّ علينا ويخاطبنا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق..
فما أحلى الفاتحة، ووالله إنها لأكثر سورة يجب أن يخشع العبد فيها
ولكن للأسف بعض الناس لا يبدأ بالتركيز إلا بعد إنتهاءه من الفاتحة ويستبعد أن يكون هناك ما يشدهُ فيها
مع أن الذي يطلِّع على أسرارها، يجد لها طعمًا آخر
والسبب في أن قول الله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أتى عقب قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "إن ربوبية الله عزَّ وجلَّ مبنية على الرحمة الواسعة للخلق،
لأنه تعالى لما قال {.. رَبِّ الْعَالَمِينَ}كأن سائلاً يسأل ما نوع هذه الربوبية؟
هل هي ربوبية أخذ وانتقام أم ربوبية رحمة وإنعام؟ فقال بعدها ربي {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ }
والرحمن والرحيم يدلان على الرحمة ولكن بينهما فرق
فالرحمن أي ذو الرحمة الواسعة ولذلك جاء على وزن فعلان الدال على السعة،
ويدُل على أن صفة الرحمة قائمة به سبحانه.
أما الرحيم فهو الذي يوصل الرحمة إلى من يشاء من عباده،
ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل.
يقول ابن القيم " ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان ل
من ملىء بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول .. ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا
كقوله
تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، و{.. ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:
59] ..
فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم،
كما قال تعالى {.. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..} [الأعراف: 156] ..
فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كل شيء"
ويقول "والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل ..
فالأول: دال أن الرحمة صفته، والثاني: دال على أنه يرحم خلقه برحمته
وإذا
أردت فهم هذا فتأمَّل قوله: { .. وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيمًا}[الأحزاب: 43] وقوله تعالى {.. إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 117]
ولم يجيء قط رحمن بهم، فعُلِّم أن الرحمن: هو الموصوف بالرحمة ورحيم: هو الراحم برحمته"
ورحمة الله تكون في ما منعك، كما تكون في ما منحك .. فإذا منعك الله تعالى من شيءٍ تحبه وتريده،
فهذا هو عين العطاء لك .. لإنه إن كان هذا الشيء في الظاهر محبباً لك،
فإن فيه مفاسد هي أعظم من منافعه والله تعالى يراها وأنت لا تراها ..
فهو الخالق سبحانه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ..
فيكون منعك منه فيه منفعة لك أكثر من حصوله لك سواء في العاجل أم في الآجل،
قال
تعالى {.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
فالأمر كله رحمةً للعبد، ولكنه يقف بين يدي الله تعالى مُتسخطًا في الصلاة بدلاً من أن يقف فرحًا
متلذذًا برحمة الله التي وسعت كل شيء
والسبب في أن قول الله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تقدَّم على قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
يقول الغرناطي في (ملاك التأويل) "الله عز وجل يخاطب عباده بخطاب الرحمة والتلطف والاعتناء
فيقول للنبي {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة : 43] .. فقدَّم العفو على ما ظاهره العتاب
لكي لا ينصدع قلب النبي.. وكذلك تلطَّف على عباده من أمة النبي فقال لهم {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
ليؤنسهم في ذلك اليوم الشديد"
فكما آنس الله عز وجلَّ نبيه ، فقد قدَّم قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لكي يؤنس أمته
في هذا اليوم العصيب لما فيه من أهوال